الثلاثاء، 25 يناير 2011

خلق الكون بين العلم والإيمان للدكتور محمد باسل الطائي

1
القرآن والعلم
فصل من كتاب (خلق الكون بين العلم والإيمان للدكتور محمد باسل الطائي)
2
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وعلى آله، أما بعد:
لتكون هدى للمتقين وإخراجا للضالين من  فقد أنزل الله تعالى كلمته بالحق على محمد
الظلمات إلى النور. من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعارف الدنيوية والدينية ليهديهم صراطه
المستقيم الذي به نصل إلى غاية السعادة في الدنيا والآخرة. لقد جاء القرآن نورًا وهدى منزلا
على أفضل ما كان وما سيكون كام ً لا مقتبسا من علم الكامل الواحد الأحد الذي لم يتخذ ولدا ولم
يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل. سبحانه وتعالى عما يشركون. فيه أودع الله
تعالى أسرارًا من علمه وفيضًا من رحمته للعالمين فجعله آية للناس شاهدا لهم وعليهم حتى يرث
الله الأرض ومن عليها.
وليس غريبا أن يشتمل القرآن الكريم على غاية الجمال في الشكل، ونهاية الكمال في
المضمون، لأنه صادر عن الأول والآخر، الظاهر والباطن، الذي هو بكل شيء عليم. خلق
السماوات والأرض فيما نعلم وما لا نعلم، ومما نعلم ومما لا نعلم له الملك وله الحمد، سبحانه
وتعالى عما يصفون. هذا القرآن لا تنتهي غرائبه و لا تفنى على مرّ الزمان عجائبه. فيه أخبار
من سبقوا، و أعلام من حضروا وأمارات من سيأتون من بعدهم. أنزله الله تعالى بلغة ثرَّة غنية،
ليس لمعانيها قرار، و لا لوجوهها و نظائرها مثال، فاجتمعت في حروفه المعاني والأسرار، و
في كلماته أعمق الأغوار، وفي جمله سُبُحات وأنوار، فكان بديع الصنع، ليس كمثله كتاب.
البيان العلمي للقرآن
وجوه البيان العلمي للقرآن كثيرة، ومصادرها عديدة، فمنها ما هو في نظمه لغة، ومنها ما
هو في جمع جُمله واتساقها تركيبًا، ومنها ما هو في مضمونه من المعارف والعلوم الكثيرة التي لا
يحصرها أحد. و قد جاء العلم في القرآن على مراتب شتى، فمنها ما هو على مرتبة الجملة (وهي
مجموعة الآيات، أو الآية الواحدة أو بعض الآية). ومنه ما هو على مرتبة الكلمة ومنه ما هو
على مرتبة الحرف الواحد، بل إن من العلم القرآني ما هو على مرتبة الحركة. وقد قدَّم المفسرون
القدامى أفضل ما وسِعه علمهم لتفسير القرآن مستعينين بالمأثور من كلام رسول صلى الله عليه
3
وسلم، وأقوال الصحابة الكرام، وأقوال التابعين و تابعيهم على النحو الذي وَعوهُ منه على
أزمانهم.
أما في هذا العصر الذي نحن فيه، فإن العلم الاستنباطي (الطبيعي) قد أخذ مداه، و تطورت
وسائله العلمية والنظرية، بما يجعل نظرية العلم وطرائقه مرقاة للمعرفة الصحيحة عن العالم
المادي، وما يحويه من قوى وطاقات وخصائص. أما المحذور في هذا العلم المعاصر من
المعارف التخمينية غير الدقيقة، فانه معروف أو يكاد يكون معروفا، إذ توثقت أصول المعرفة
الاستنباطية في جميع وجوهها وفروعها. وسنأتي على تفصيل هذه المسألة في الصفحات التي تلي
لاحقا. لكننا الآن نتساءل: ما أهمية الفهم العقلي والبيان العلمي للقرآن في هذا العصر، وهل من
ضرورة ملحة لهذا الأمر؟ والإجابة على هذا السؤال نقول إن المعارف العلمية الاستنباطية شهدت
خلال القرون الثلاثة الماضية تطورا كبيرا أثبت مصداقيتها العملية من خلال الكثير من الشواهد
التطبيقية مما جعل فريقا كبيرا من الناس يلجأ إلى هذه المعارف والعلوم ويعتبرها غاية لا بديل
عنها. فيما يرى هذا الفريق من الناس أن المعارف التي جاءت بها الأديان (ومنها القرآن بزعمهم)
لا تعدو أن تكون برامج إصلاحية جاء بها مصلحون اجتماعيون قدموا في أزمانهم خلاصة
أفكارهم المتقدمة على عصرهم من أجل إصلاح البشر وتنظيمهم وفقا لسياقات حياتية أكثر نفعا.
ويبررون الجانب الغيبي في الأديان على أنه الوحي الذاتي الذي تقرره محدودية العلم والمعرفة
العقلية في تلك الأزمان إذ كانت هذه المعرفة قاصرة عن إدراك الأسباب والمسببات التي تختفي
وراءها ظواهر الطبيعة بل يظن البعض أن الإيمان بالغيب هو امتداد لمرحلة السحر والأساطير
القديمة ويرون أن الإله هو اختراع إنساني فرضته الحاجة النفسية للإنسان، يلوذ به هربا من
غوائل ومفاجآت القدر، ليوفر بذلك نوعا من التطمين الذاتي للإنسان. أما الحياة بعد الموت فيرى
فيها هذا الفريق من الناس الذين أُخذوا بمنجزات العلم والمعارف الاستنباطية ما يحقق غريزة
البقاء من خلال الامتداد الزمني والديمومة وعشق الخلود الذي هو حاجة نفسية إنسانية بنظرهم.
إن أهم العوامل التي تدفع هذا الفريق من الناس إلى الضلالة والاعتقاد الخاطئ أن معطيات العلم
والمعارف الاستنباطية هي معطيات مطلقة وأن صحتها قطعية غير قابلة للنقض أو التبديل، فظنوا
أن ما يتوصل إليه الإنسان بالفكر والتجربة إنما هو حقائق مطلقة وكاملة لا سبيل إلى تغييرها.
ولقد حكمت هذه الرؤية عقول كثير من مفكري القرن الثامن عشر والتاسع عشر الذين
تصوروا أن المعرفة العلمية قد توصلت إلى حل معظم مشاكل ومسائل العالم ولم يتبق إلا القليل
من الألغاز والمستغلقات التي ظنوا أن تطور العلوم سيكون كفيلا بحلها. هذه الرؤية التي تجسدت
4
في فلسفات حديثة ومعاصرة كالماركسية والوضعية والوجودية ساهمت في تضليل قطاعات كبيرة
من البشر. فانحسر الاتجاه الإيماني في كثير من بقاع العالم وصار الإنسان فريسة للضياع
والحيرة مع هذا العالم المادي، وكاد الاعتقاد الإيماني ينحصر في زوايا صغيرة معزولة ليمثل
بقايا التخلف والرجعية والانعزالية فيما أطاحت بالعالم موجة من الفكر الإلحادي الذي سموه
جزافا بالفكر العلمي أو العلماني. وهو أبعد ما يكون عن العلم والعلمية. وإزاء هذا التيار الإلحادي
العارم وقف الرهط الإيماني عاجزا عن المقاومة والتصدي خاصة وإن هذا الرهط كان يفتقد
المعارف العلمية اللازمة للمواجهة، فهو قد عاش وترعرع في كنف التراث الديني الذي يمكننا
القول بأنه توقف عند القرن الثامن الهجري (الثالث عشر الميلادي) وتوقف على معارف السلف
وطرائقهم وأساليبهم في الاستنباط، بل قد توقف على ما تم إنتاجه من معارف أصيلة أُنتجت حتى
نهاية القرن السادس الهجري في أحسن الأحوال، فلم تكن النتاجات اللاحقة في أغلبها إلا اجترار
لما أنجزه السلف في شؤون المعرفة، ذلك الاجترار المتمثل بالشروح والذيول والحواشي
والهوامش على الشروح والذيول، منطلقا من قدسية غير مبررة أُطلقت على ذلك السلف المتنور
والمبدع في أثناء عصور الانحطاط والتخلف. وإذ كان الإنسان المسلم حينئذ خاليا من الإبداع
والنتاج الأصيل الجديد، كان لا بد أن يكون ماضويًا ورجعيًا يجتر ما خلفه الأسلاف. لكننا في هذا
العصر وإزاء ما تقرر من معطيات جديدة في العلم والمعارف الحديثة والمعاصرة التي جاءت بها
الثورات العلمية التي تفجرت في مطلع القرن العشرين نجد أنفسنا أمام تحد جديد يستفزنا إلى
منطلق متجدد يتخذ العلم نفسه وسيلة وسلاحا مضادا للتصدي للتيار الإلحادي والمعارف
والفلسفات الضالة فليس هنالك ما يجعل العلم مناقضا للدين ولا ما يجعل الدين مناقضا للعلم إلا
تلك الخرافات التي تسربت إلى الدين والفكر الديني من مصادر بشرية، بعضها بقصد وبعضها
الآخر دون قصد، وهي كلها ليست من الدين الحق في شيء. ولعل في الصورة التي قدمها َ كَتبة
(سفر التكوين) ما يبرر مثل هذا التناقض بين العلم والإيمان. ولعل في موقف الكنيسة من أفكار
كوبرنيكوس وغاليليو غاليلي ما يبرر النزعة المتضادة بين العلم والإيمان. إلا أن هذا كله ليس
موقف الدين الحق ولا هو موقف السماء من العلم والعلماء بل هو موقف العقائد المنحرفة لأولئك
الذين يحرفون الكلم عن مواضعه فيضِلُّوا ويُضلُّوا.
5
ومن المؤكد أن الدين يقع في مواجهة مع العلم متى ما جمدت معارفه وتوقفت استنباطاته،
1 فهذا الجمود سيورث التخلف وبالتالي  حَسْبُنَا مَا وَجَدَْنا عَلَيْهِ آبَاءََنا  : وصار الناس يقولون
يصطرع مع العالم المتحرك. نعم هنالك ثوابت وهنالك متحولات وعلينا أن نميز من ما هو ثابت
وما متحول. وهنا يبرز السؤال: كيف نوفق بين المبدأ المقرر بالوحي المنزل يقينيًا وبين الاستنباط
الظني؟ هل نعتمد ما نتوصل إليه بالعقل معيارا بالحكم على النص؟ وبذلك نعطل نصا وننفذ آخر،
فنؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؟ أقول: لا، لكننا لو نظرنا إلى ما في الوحي المنزل من عند
الله لوجدنا أنه يتضمن أصولا صحيحة دومًا لا تقع في تناقض مع العلم أبدا لأن الله تعالى يُحكم
آياته ولا يدعها تتأثر حتى بأمنيات الأنبياء والرُسل. قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نبِيٍّ إِلا إِذَا تمَنَّى أَْلقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي 
2 الشَّيْطَانُ ثمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاِتهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم
أما ما يحصل من تناقض ظاهر فمردُّه أمران:
الأول: فهم خاطئ للنص النقلي من خلال تفسير خاطئ.
الثاني: توصل خاطئ أو ناقص في العلم العقلي نفسه.
وكلا الأمرين وارد، وقد َ شهِدت القرون الماضية من معرفة الإنسان ما حصل فيه كلا الأمرين.
وسنعرض أولا جانبًا من تطور المعرفة العلمية الفيزيائية لكي نقف من خلال ذلك على آليات
حركة المعرفة العلمية ثم نعرض لبعض الحالات التي وردت في بعض التفاسير لنبين أن مصدر
الخطأ التفسيري ليس النص وإنما ما دخل عليه من معارف أخرى خارجة عنه. بعد ذلك سنقول
كلمتنا في المنهج الذي ينبغي اتباعه للوصول إلى الفهم الصحيح.
إن المعرفة العلمية الحديثة والمعاصرة التي تكشفت منذ مطلع هذا القرن قد أكدت المسلمات
الأولية التي جاءت بها السماء من خلال الوحي الرباني إلى الأرض. وأثبتت منطلقات هذه
المعارف صحة التوجه الإيماني كما أثبتت الإنجازات العلمية والتقنية اللاحقة التي استثمرت نتائج
تلك المنطلقات سداد التوجيه العقائدي الرباني على صعيد البيئة والمجتمع. فالإنجازات العلمية
( 1 (المائدة: من الآية 104
( 2 (الحج: 52
6
للتكنولوجيا الصناعية غير الموجهة بالارتباط الإيماني صارت وبا ً لا على الطبيعة والمجتمع
وأصبح كثير من الناس في قلق على مستقبل كرتهم الأرضية من مخلفات الحضارة الصناعية
والجشع الواسع الذي تتسم به حضارة الاستهلاك فض ً لا عن الآثار الاجتماعية الخطيرة التي خّلفها
ارتباط الإنسان بالآلة والماكنة وذلك الاعتماد المتزايد عليها في تحقيق الرفاه والسعادة الفردية
والجماعية هذا الرفاه الظاهري الذي يخفي وراءه عبودية الإنسان لحاجاته ونهمه المتزايد
لإشباعها دون جدوى. لقد أثبتت وقائع التاريخ القريب ووقائع العالم المعاصر أن تطور العلم
واستخدام نتائجه وثمراته بصورة غير موجهة وغير منضبطة يمكن أن تجرّ كثيرا من الدمار على
الأرض وسكانها وعلى كافة الصُعد، الصحية والاجتماعية والذاتية الإنسانية، إذ إن إشباع
الحاجات عندما يصبح غاية يحد ذاته، فإنه دون شك يكون غاية لا تدرك. فإشباع الحاجة المادية
للإنسان لا تحده حدود، ولن يتحقق الرضا في ذات الإنسان ما لم تكن هنالك عقيدة يسير وفق
هديها وإلا فإنه سيكون حيوانًا شرهًا لا تحدّ أطماعه حدود.
قلنا إن المنطلقات العلمية التي تك ّ شفت في بداية القرن الماضي قد أكدت المسلمات الأولية
التي جاءت بها السماء. وفي هذا الصدد نؤشر الملاحظات الأساسية التالية عن المعرفة والوجود
الإنساني:
أو ً لا: إن معرفة الإنسان مهما بلغت فهي قاصرة عن الكمال، وقاصرة عن القطع المحتوم
والنهائي. ولكي تتضح هذه الحقيقة المستقرأة من تاريخ المعرفة نقول: إنه حتى نهاية القرن التاسع
عشر كان معظم علماء الفيزياء يعتقدون بكمال المعرفة العلمية التي حصلوا عليها، وكانوا يظنون
أنهم قادرون على تفسير جميع الظواهر الطبيعية التي يصادفونها اعتمادا على ثلاث ركائز علمية
هي:
أ. علوم الميكانيك والجاذبية وحركة الأجسام، ممثلة بقوانين نيوتن وما تم استخراجه منها.
ب. علوم الحرارة والانتقال الحراري والقوانين المتعلقة بها.
ج. علوم الضوء والبصريات ممثلة بنظرية ماكسويل في الموجات الكهرمغناطيسية
ومعادلاته التي انبثقت عنها علوم البصريات الحديثة.
Classical Physics وقد عُرفت هذه العلوم تحت مظلة واحدة في ما سمي الفيزياء الكلاسيكية
وفلسفيًا قامت هذه الفيزياء على نفس الأسس الفلسفية العامة لليونان والتي تشتمل على القول
بالمبادئ التالية: قدم العالم (الكون) من حيث أن لا بداية له في الزمان ولا نهاية. والاستمرارية
7
في بنية الأشياء وتركيبها، والثبات والانتظام والحتمية في تصرف قوانين الطبيعة ووجود الزمان
والمكان المطلقين.
إلا أن هذه الفيزياء واجهت في نهاية القرن التاسع عشر معضلات مختلفة اشتركت فيها
جميع هذه العلوم تمخضت عن حلول جذرية فرضت نفسها، فغيرت المفاهيم السائدة، وجاءت
بمعادلات جديدة وابتدعت أصول تعامل علمي جديدة لم تكن معهودة سابقا. فجاءت نظرية النسبية
الخاصة التي وضعها ألبرت آينشتاين عام 1905 لتوحّد الزمان والمكان في كينونة واحدة متصلة
هي الزمكان، بحيث صار الفضاء الذي نتعامل معه مؤلفا من أربعة أبعاد: ثلاثة منها مكانية وهي
المعهودة وبعد رابع هو الزمن. ولم يكن لهذا البعد الرابع أن يكون جزءا من البنية التكوينية
للفضاء لولا ثبات سرعة الضوء وكونها مطلقة بالنسبة إلى جميع مراجع القياس. وكان من ثمرة
ذلك التوحيد للمكان والزمان أن تم الكشف عن تكافؤ المادة والطاقة من خلال العلاقة الشهيرة التي
تقول إن الطاقة هي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء. ثم وضعت نظرية النسبية العامة
التي عممت النسبية الخاصة، وأمعنت في توحيد شخوص العالم وترابطها ببعضها مع البعض
الآخر، إذ كشفت عن علاقة المادة /الطاقة مع الهندسة والحركة. فتبين لآينشتاين أن القوة
الجاذبية، التي يخالها الناس صفة للمادة، هي في الحقيقة صفة لهندسة الفضاء (الزمكان). فصارت
الموجودات المادية الفيزيائية نتاجًا مباشرا لخواص الزمكان الموحد الذي وجده آينشتاين محدبًا
حيثما كان هنالك مصدر للقوة الجاذبية. وبالتالي صار التعبير عن القوة الجاذبية (أو وجود الكتلة
الذي هو مصدر القوة الجاذبية في مفاهيم نيوتن ونظريته) تعبيرًا عن تحدّب الزمكان في ذلك
الموقع أو النطاق. ولما كان الزمكان الموحد نفسه حالة تجريدية بالنسبة لنا نحن البشر، ولما كانت
مُدركاتنا الحسية المباشرة غير قادرة على استيعاب وتصور أكثر من ثلاثة أبعاد مكانية، فإن فكرة
الأبعاد الأربعة التي جاء بها ألبرت آينشتاين كانت خروجا عن المألوف، ونوعا من التجريد الذي
يقرر ضمنيا الاعتراف بوجود عوالم أخرى تفعل فعلها في عالمنا الحسي خارجا عنه. فالزمكان
الرباعي حالة لا يمكن تصورها، بل نتعامل معها نحن الفيزيائيين تعاملا رياضيا ممثلا بالرموز
الصماء التي نتلاعب بها وفقًا لقواعد وأصول المنطق الرياضي المعتمدة والمثبتة، فيما نترك
التصور الحسي جانبا في هذه الحالات.
بتصورات جديدة عن تصرف المادة Quantum Theory كذلك فقد جاءت نظرية الكم
والطاقة والحركة في العوالم الدقيقة، عوالم الجزيئات والذرات وما تحتها، وكشفت عن قوانين
جديدة تحكم العوالم الذرية. فصارت الجسيمات الدقيقة عبارة عن تذبذبات وأمواج من نوع جديد
8
وفيما تتداخل الخواص الموجية مع الخواص الدقائقية في ،Matter Waves سمي أمواج المادة
صورة تكاملية فقد انبثقت عن هذا العلم أصول جديدة للتعامل مع العالم الذري تمثلت بأصول
التي جاءت إثر Relativistic Quantum Theory نظرية الكم. ومن بعدها نظرية الكم النسبوية
الجمع بين نظرية الكم ونظرية النسبية الخاصة، فأفرزت هذه النظريات معارف جديدة ومبادئ
في التعامل مع العوالم Discreteness أصيلة في النظر إلى العالم، ومنها مبدأ التجزئة والانفصال
الدقيقة الذي يقرر البنية التجزئية للعالم بعكس البنية الاتصالية التي كانت قائمة وفق نظرية
الفيزياء الكلاسيكية. كما ظهر أن قوانين العالم الذري تعمل بموجب مبدأ الاحتمال والتجويز في
حصول الأحداث، فلا أمر محتوم لا قطع بحصول أمر. كما ظهر أن العالم يتجدد حا ً لا فحال في
كل وقت وآن، والأشياء لا تبقى على حالها زمانين. وبذلك انتفت عقيدة الحتم التي كانت الفيزياء
القديمة (الكلاسيكية) تقررها، والتي آلت أن تجعل من قوانين الطبيعة بديلا للإله وقدرته وإرادته.
كما انتفت عقيدة الثبات والانتظام التي كانت الفيزياء القديمة قائمة على شروطها وصارت رؤية
العالم تتسم بالجدة والتغير الدائم، إذ لا يبقى شيء على حاله زمانين، كما قال بذلك المسلمون
ضمن مفاهيم وأصول علم الكلام قبل عشرة قرون 3. وبذلك انهارت المفاهيم القديمة التي كانت
تصوّر الكون آلة ميكانيكية كبيرة تتفاعل فيها متغيرات المكان والزمان والطاقة والمادة والحركة
بموجب قوانين حتمية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، تلك المفاهيم التي كانت أساسا لجهل وضلالة
الرياضي والفيزيائي الفرنسي الشهير بيير لابلاس حين أجاب عن سؤال نابليون بونابرت عن
سبب عدم الإشارة إلى وجود الله في كتابه المعنون (ميكانيك السموات)، فقال له: "يا سيدي إن الله
فرضية لم أجد لها ضرورة في عملي هذا". نعم لم يجد لابلاس ضرورة لافتراض وجود الله لأن
قوانينه تقوم على مبدأ الحتم، وهي قوانين نهائية وغائية كل شيء فيها محتوم بأجل تحدده المعادلة
الرياضية، ولا مجال فيه للشك أو عدم اليقين. أما نظرية الكم فقد كشفت عن جهل لابلاس هذا، إذ
أقرت أن التغيرات الحاصلة في المادة لا سبيل إلى القطع بحصولها إلا ضمن قدر من الاحتمال
الذي تتحرك خلاله تلك المتغيرات دون أن يكون هنالك من سبيل إلى القطع بحصول الحدث قطعا
نهائيا وغائيًا.
3 هذا موضوع بحث مفصّل آخر . وقد نشرنا عنه ملخصًا في مجلة الفكر الإسلامي والإبداع العلمي التي
تصدرها منظمة المؤتمر الإسلامي . انظر:
Altaie , M.B (The Scientific Value of Dakik Al-Kalam) , Journal of Islamic thought and
Scientific Creativity vol. 5.No.2, 1994
9
كذلك فقد كشفت الأبحاث التي جرت خلال العشرينات والثلاثينات من هذا القرن حدوث
العالم (الكون)، وأنه لا بد وأن يكون قد ُ خلق من عدم بقدرة وإرادة خارجية لا يعلم العلم عنها
شيئا حتى الآن، لكنه يقرر حصول الحدوث في الزمان والمكان. وبذلك فتح العلم الباب للتساؤل
عن الأسباب والمسببات التي تقف وراء هذا الخلق العظيم، ولا زالت الأبحاث جارية بهذا الصدد.
وسنفرد لهذا الموضوع فصلا خاصا.
من كل هذا، ومن خلال استقراء تاريخ المعرفة العلمية نستنتج أن معرفة الإنسان التي
حصل عليها من خلال بحثه في الطبيعة هي معرفة متكاملة تنمو وتتطور كل يوم، وهي في تبدل
مستمر باتجاه الدقة، وباتجاه التحقيق، لكنها لم ولن تبلغ يوما أية حقيقة قطعية كاملة ونهائية، وهذا
ما يدعو الإنسان العالم إلى مزيد ن التواضع أمام عظمة هذا الكون الدالة على عظمة خالقه، ليعلم
أنه لم يؤت من العلم إلا قليلا مهما بلغ منه، ومهما سيبلغ منه بعد آلاف السنين أيضا.
ثانيًا: كشفت المعارف العلمية الحديثة في علوم الإحصاء وحساب الاحتمالات وعلوم الحياة
أن وجود الكون، وحصول الحياة التي نحياها فيه لا يمكن أن يكون قد حصل مصادفة أبدًا، ذلك
لأن الفرصة المؤاتية لتكوين جزيئي واحد من البروتين الذي هو قوام الحياة في الخلية الحية لا
تتهيأ عن طريق الصدفة المحضة إلا بنسبة 1 إلى 10260 (أي 1 مقسوما على 10 مضروبة في
نفسها 260 مرة) وهذا مقدار ضئيل جدًا يقترب من الصفر 4. كما أن حصول ذلك الحدث يستلزم
كمية من المادة أكثر مما يتسع له هذا الكون بملايين المرات. ويتطلب تكوين هذا الجزيئي على
سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين البلايين من السنوات قدرها العالم الإحصائي
السويسري تشالز جين جاي 5 بأنها 10243 سنة (أي 10 مضروبة في نفسها 243 مرة) علمًا أن عمر
1010 سنة) فقط. كما كشف العلم المعاصر وخلال × الكون لا يتعدى 20 مليار سنة (أي 2
العشرين سنة الماضية عن حقيقة أن ظهور الإنسان على ظهرالأرض لا يمكن أن يتحقق فعلا
دون أن يكون الكون كله مخلوقا بهذه الصيغة التي هو عليها بما في ذلك كونه في حالة توسع
وتمدد مستمرة وهذا ما يؤكد مذهب التسخير الذي قرره القرآن الكريم. يقول الله تعالى:
. 4 كريك، (طبيعة الحياة)، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1989
5 أنظر: كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) تأليف مجموعة من العلماء.
10
أَلمْ ترَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اْلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ 
6 مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ
والأصح تسميته مبدأ Anthropic Principle وهذا هو صلب ما يُدعى اليوم المبدأ الإنساني
التسخير، لأن مضمونه هو ما يقصده مبدأ التسخير الإسلامي تمامًا، وهذا ما سنأتي عليه في فصل
قادم من هذا الكتاب إن شاء الله.
وإذن، فالعلم نفسه يقرر أن هذا الكون لم يخلق مصادفة وإن نشأة الإنسان على هذه
الأرض لم تكن مصادفة ولم يكن عبثًا بل لغاية. لكن ما هذه الغاية؟ هذا ما سنراه خلال صفحات
هذا الكتاب.
ثالثًا: إن اعترافنا بأن المعرفة الاستنباطية العلمية التي نتعامل معها هي معرفة متكاملة
وليست كاملة، وأنها احتمالية جوازية وليست حتمية، وأنها قابلة للتغيير والتبدل وليست ثابتة،
يجعلنا في حال لا نستطيع معها الجزم والقطع بأي أمر كان إذا كنا نعمل وفقًا لما يقرره العلم
فقط. أما إذا كان الجهل والعنت سبيلنا فإن بإمكاننا عندئذ أن نقول بغير ذلك. وهذا يعني أن معرفة
الإنسان عن نفسه أولا هي معرفة بالماضي وكذا بالمثل معرفته عن الكون نفسه وهذا ما يفتح
آفاقا أخرى للمعرفة الاستنباطية، آفاقا لوجود معارف أخرى من نوع آخر. فإذا كنا قد أقررنا
بوجود عوالم ذرية وتحت ذرية نستدل عليها بآثارها وما يحصل لنا من مشاهدات حسية أو
تأملات عقلية رياضية فلماذا لا نقر بوجود عوالم أخرى لا تحدها عقلية رياضية صرف ولا تعبر
عنها المعادلات والنظريات الحاصلة في عقولنا الآن؟
إن كل شيء في العلم المعاصر يدعونا إلى التأمل وقبول وجود معرفة الكاملة لدى من هو
أكبر من هذا العالم وهذا الكون، لدى من هو اقدر وأحكم وأعلم، ذلك الذي لا يحده مكان ولا
يستولي عليه زمان، وهو الله الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء يدبر الأمر في السماوات
والأرض وهو العليم الخبير. أما نحن فلسنا سوى عُبّاد خلقنا لكي نتوسل بما سخره لنا من مكامن
في أنفسنا وفي خارجها في هذا الكون لنصل بمعرفتنا إليه وهذه هي الغاية العظمى التي يريدها
الله لنا. وما أسماها من غاية إذ يتوحد الموجود مع الواجد، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
( 6 (لقمان: 20
11
قيمة العلم
ذكرنا جانبا من السمات الأساسية للمعرفة العلمية الاستنباطية، وقد يفهم القارئ من ثنايا ما
قلناه تعريضا بوضاعة العلم الاستنباطي وقصوره ومحدوديته إذ يجده غير كامل أو يجده غير
مستقر يخضع للتبدل والتغير المستمر فيفقد الثقة بمعطيات العلوم الاستنباطية ويعرض صفحا عن
نتائجها. ويقع بذلك فريسة للجهل إذ يخسر شطرا مهما من مكامن وجوده، وأداة يستطيع بها
التوصل إلى المعرفة بالله تعالى. لذلك لا بد أن نضع الأمور في نصابها فنكشف عن قيمة المعرفة
العلمية ومواطن القوة والضعف فيها، ليكون ذلك دلي ً لا لنا إلى التعامل مع المعارف الاستنباطية
التي تتعامل مع الحقائق الجزئية أساسًا، والتي هي بمجملها وسيلة، وليست هدفًا.
إن استقراء تاريخ العلم والمعرفة الاستنباطية يبين لنا أن وسائل هذه المعرفة هي: التفكر
والتجريب. وحصيلة التفكر هي النتاج النظري بما فيه من تصورات وصياغات نظرية نستدل بها
على الكيفيات لتفسير حصول الظواهر وفهم الأسباب والمسببات الظاهرة فيما يحصل من حوادث،
أو نجد من أشياء في هذا الكون. أما التجريب فإنه الوسيلة التي نجسد بها الظاهرة أمامنا حاصلة
كما هي في الطبيعة، ثم نختبر متغيراتها، وتأثير المتغيرات بعضها على بعض، ثم نعود إلى
التأمل والتفكر فيما يحصل، فنربط بين المتغيرات بعضها على بعض في جملة علاقات رمزية
رياضية تعبر عن مضمون التجربة ومحتواها العلمي بصيغة نظرية، ليتم بذلك اكتشاف القانون
الذي يقف وراء الظاهرة ويحكمها. وحيثما لا تتوفر صيغة مباشرة ومفهومة للكشف عن العلاقات
السببية بين الأحداث والمتغيرات التي تتضمنها، فإننا نلجأ إلى الفروض التي نعتقد أنها تستبطن
الفعل التجريبي وتختفي وراء حصوله بالكيفية والكمية التي يحصل بها. وهذه الفروض
والمسلمات إن هي إلا تصورات وعقائد يرى الباحث ضرورة تقريرها لصياغة الإطار النظري
الذي يختفي وراء حصول الظاهرة (أو مجموعة الظواهر)، ويعقد الأمل على أن تفسير نتائج
التجريب سيكون ناجحا ضمن الإطار النظري المقترح، فيعتبر أن نجاح النظرية بفروضها
ومسارها البرهاني قائم على واقعية تحققها تجريبيا. وهذا هو الحد الأدنى اللازم للفرضية العلمية
المقبولة. أما إذا تقاطعت نتائج التجريب (أو الأرصاد في حالة الظواهر الفلكية والكونية) فإن
الرفض التام سيكون من نصيب تلك الفرضية، ولن تجد لها حظا من الاعتراف العلمي. أما إذا
تكاملت مجموعة الفروض لتكوين إطار نظري متسع يفسر عدة ظواهر، ويتنبأ بخواص جديدة
12
للظواهر المفسرة تحت شروط وظروف جديدة أو يتنبأ بحصول ظواهر جديدة مع تحديد صفاتها
النوعية والكمية، فإن الفرضية العلمية ترتقي عندئذ إلى مستوى (النظرية العلمية).
من هذا نفهم أن قوام النظرية العلمية مجموعة من الفروض الابتدائية تتركب بعضها على
بعض باتساق مع الحقائق والمعارف المقررة في العلم سابقا ضمن مسار برهاني معين (غالبا ما
يتخذ الصيغة الرياضية) لتنتج تفسيرات نظرية لوقائع أو ظواهر حاصلة في الطبيعة، وتتنبأ
بظواهر لم تكتشف بعد. وأقوى النظريات العلمية هي تلك التي تتخطى حالة التفسير إلى حالة
التنبؤ والاكتشاف العلمي التجريبي أو الأرصادي. ومن البديهي طبعا أن تكون النظرية متسقة ذاتيًا
بحيث لا يمكن نقض فروضها الأولية بنتائجها. إن الأمثلة على النظريات العلمية Consistent
كثيرة في التاريخ الحديث وفي زماننا المعاصر، فبدءًا من أرصاد تايكو براهي خلال القرن
السادس عشر، وحسابات يوحنا كبلر الذي عمل معه و َ خَلفه في الأرصاد السماوية لمدارات
الكواكب السيارة حول الشمس، واعتمادًا على فرضيات كوبرنيكوس الذي عاش خلال النصف
الأول من القرن السادس عشر، والقائلة بأن الشمس هي مركز تدور حول الكواكب السيارة في
مدارات دائرية، وحسابات غاليليو غاليلي خلال القرن السابع عشر لحركة الأجسام الساقطة
سقوطا حرًا، من كل ذلك تشكلت الأسس الصحيحة للمعالجة التجريبية والنظرية للظواهر في
الطبيعة والكون. وتعتبر أعمال غاليليو بداية العلم الحديث على الرغم من السبق الذي كان لغيره
في هذه الدراسات، وخاصة أعمال العلماء المسلمين. إلا أن تلك الأعمال والدراسات اتخذت
الصيغة الوصفية، ولم تعن بما يكفي بدراسة الصفات الكمية بل اكتفت بالوصف النوعي للحركة.
واعتمادًا على حسابات يوحنا كبلر الأرصادية وأفكار غاليليو غاليلي النظرية والتجريبية في
الحركة استطاع إسحق نيوتن في نهاية القرن السابع عشر صياغة نظرية متكاملة في الحركة
الحرة والحركة تحت تأثير المجال الجاذبي، ومن خلال هذه النظرية تم استنباط أشكال ومقاييس
الحركة الكوكبية للسيارات حول الشمس، وتم حساب تعجيل الأجسام الساقطة سقوطا حرا على
الأرض، كما تم حساب مدار القمر حول الأرض وجميع الأجسام الفلكية ضمن النظام الشمسي،
بما في ذلك المذنبات كمذنب هالي المعروف، وبذلك اكتسبت أعمال نيوتن الشهرة المعروفة بحق
لأنها فسرت كثيرا من الظواهر الفلكية والوقائع الأرصادية كما تنبأت بمجمل حركة النظام
الكوكبي الشمسي، بما في ذلك توّقع وجود كواكب أخرى لم تكن مكتشفة على عهد نيوتن نفسه.
ومن خلال هذه التوقعات تم اكتشاف كوكبي أورانوس ونبتون ثم تم في النصف الأول من القرن
العشرين اكتشاف كوكب بلوتو عام 1937 م.
13
وكذا بالمثل جاءت نظرية جيمس كلارك ماكسويل خلال القرن التاسع عشر حصيلة لتراث
نظري وتجريبي طويل عمل خلاله الكثير من الباحثين على مدى القرن الثامن عشر كله في
دراسة خواص الظواهر الكهربائية والمغناطيسية في محاولة للكشف عن صفات، وكيفيات حصول
هذه الظواهر، ومعرفة متغيراتها حتى توصل ماكسويل لتنظير جميع الصفات وتفسيرها واكتشاف
القوانين العامة التي تحكمها في إطار نظري شامل وموحد هو "النظرية الكهرمغناطيسية " والتي
فيها تم توحيد متغيرات المجالين الكهربائي و المغناطيسي في كينونة واحدة هي المجال
الكهرومغناطيسي والذي استطاع ماكسويل بواسطته تفسير خواص الضوء والظواهر البصرية
بموجب حسابات كمية جاءت متطابقة مع التجربة، مما أكد للناس في ذلك الوقت أن الضوء هو
موجات كهرومغناطيسية.
لقد حققت نظرية نيوتن في الحركة الميكانيكية وقانونه في الجاذبية ونظرية ماكسويل في
الكهرمغناطيسية نجاحات فائقة في التعامل مع العالم لمحسوس، أي العالم الجهري كحركة الأجسام
على الأرض وحركة القذائف وحركة الكواكب وصفات الضوء وظواهره المعروفة، كالانعكاس
والانكسار والاستقطاب والتداخل والحيود، مما جعلها تتصدر أصول المعرفة الفيزيائية لفترة
طويلة من الزمن. إلا أن هذه النظريات واجهت معضلات كبيرة عندما ُنقل التعامل من العالم
فلم تستطع هذه النظريات تفسير .Microscopic إلى العالم المجهري Macroscopic الجهري
الظواهر المجهرية التي لوحظت على صعيد الجزيئات والذرات، كما لم تستطع نظرية ماكسويل
تفسير تفاعل الإشعاع مع المادة ضمن التطور الموجي للمجال الكهرومغناطيسي، ذلك التطور
الذي يشكل عمادًا مهما من أعمدة النظرية الكهرمغناطيسية.
جاءت فرضية ماكس بلانك عام 1901 برؤية جديدة للإشعاع الكهرومغناطيسي، فجعلته
رزما منفصلة من الطاقة بدلا عن كونه مجا ً لا متص ً لا، كما جاء نموذج نيلز بور بتصور جديد
للذرة يقوم على فروض جديدة، ومسار برهنة جديد، ومفاهيم جديدة تكاملت مع فرضية بلانك
لتفسير الحركة الذرية، ومقادير إشعاع الطاقة وامتصاصها في العالم المجهري. كما جاءت نظرية
آينشتاين في النسبية الخاصة لحل جانب من المعضلات العملية التي واجهتها بشكل مشترك
نظريتي نيوتن الحركية، ونظرية ماكسويل الكهرمغناطيسية، وتلك هي معضلة الأثير. وما أسفرت
عنه تجارب مايكلسن ومورلي من فشل في الكشف عن وجود ذلك الوسط الافتراضي اللازم لنقل
الموجات الكهرمغناطيسية في الكون، والمرجع الحركي المطلق واللازم لاستتباب نظرية نيوتن
على أصول مرجعية حركية مطلقة تقاس نسبة إليها الحركات.
14
أما فيما يخص النسبية العامة فإنها كشفت عن تنبؤات كثيرة أهمها تباطؤ الزمن بتأثير
المجال الجاذبي (أو السرعة المعجلة)، وانحراف الضوء بتأثير المجال الجاذبي للشمس وغيرها
من النجوم. وقد تم التحقق من هذا التنبؤ أرصاديا عام 1919 من قبل بعثة علمية بقيادة اللورد
البريطاني آرثر ادينغتون ذهبت إلى جنوب إفريقيا ورصدت ذلك الانحراف خلال عملية الكسوف
الكلي للشمس.
لقد أعطت التجارب والأرصاد العملية تصديقا قويًا لنظريتي النسبية الخاصة والعامة، مما
جعل كثيرًا من العلماء يؤمنون بمحتواهما ومسارات برهنتهما، رغمًا عن المفاهيم الغريبة غير
المألوفة التي وردت فيهما. أما في مواضيع فيزياء المادة، فقد تكللت أبحاث ماكس بلانك ونيلز
بور وفيرنر هيزنبرغ ولويس دي برولي وايروين شرودنغر وماكس بورن وسومرفيلد وولفانج
باولي وبول ديراك خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين عن ولادة نظرية الكم التي
جاءت بمفاهيم جديدة كما أسلفنا. وقد لاقت نظرية الكم نجاحا كبيرا في تفسير عدد من الظواهر
الفيزيائية الذرية وتحت الذرية، لكنها لا زالت قاصرة عن إعطاء جواب نهائي على عدد من
الظواهر الأخرى، رغم تطورها إلى ما يسمى (نظرية المجال الكمي).
نستخلص من هذا أن قيمة النظرية العلمية تكمن فيما يلي:
1. إنها الدليل الصحيح إلى الكشف المعرفي الاستنباطي عن محتوى العالم وأساليب تصرفه
والقوانين التي تحكمه.
2. اعتمادها التسلسل المنطقي ومسارات برهنة محكمة.
3. احتوائها على وسائل للتدقيق والتحقيق، فالنظرية العلمية تحتوي دائما على مقياس عملي
قابل للرصد والتجريب يكون حجة لها أو عليها.
4. امتلاكها أوالية تؤول إليها في الحالات الخاصة.
فنظرية النسبية الخاصة مثلا تؤول إلى قوانين نيوتن في حالة السرع البطيئة، والنسبية
العامة تؤول إلى قانون نيوتن العام في الجاذبية في حالة المجالات الجذبية الضعيفة، وكذلك يؤول
ميكانيك الكم إلى الصورة الكلاسيكية عندما تكون أبعاد وكتل وحركات الجسيمات أكبر كثيرا من
قيمة ثابت بلانك. هكذا إذن أصبحت للنظرية العلمية أنطقة عمل، وصار تطور المعرفة العلمية
كيانا بنيويا يكمل بعضه بعضا، مما يعطي درجة من الموثوقية عالية في التعامل مع النظريات
التي تحقق الشروط العلمية وتخضع للتدقيق العملي.
15
والسؤال الآن: هل تعبر النظرية العلمية عن الحقيقة؟
ومن أجل بحثه Science and Reality هذا السؤال صار يُبحث تحت عنوان العلم والحقيقة
صارت تعقد الندوات والمؤتمرات وآخرها المؤتمر الذي عُقد في جامعة هارفرد في الولايات
. المتحدة نهاية شهر حزيران عام 2002
إن تاريخ العلم يخبرنا أن النظرية العلمية هي في الواقع تصور محدد ومشروط. وكل
تصور قابل للتحقيق ضمن شروطه فهو صحيح. إلا أن التعبير عن الحقيقة دون شروط لا معنى
له ضمن دائرة العلم الاستنباطي. لذلك فإن النظرية العلمية هي تعبير تقريبي عن الحقيقة وليست
تعبيرًا مطلقا وكلما تقدم العلم الاستنباطي اقترب من الحقيقة أكثر فأكثر. قال تعالى:
7 ثمَّ إَِليَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تخْتَلِفُونَ ُ
القرآن والعلم
لقد ندب القرآن الكريم إلى الفكر والتفكر، وحث الناس عليه في مواضع كثيرة، إذ أنزله الله
تعالى لهداية الناس، وفيه آيات لقوم يعقلون، وآيات لقوم يتفكرون، وآيات للمتوسمين. وقد لفت
القرآن نظر الإنسان إلى الكون بما فيه من مخلوقات حية وغير حية، وبما فيه من جبال وأنهار
وأشجار وأحجار وكواكب و أقمار ونجوم وليل و نهار، واحتوى في ذكره لهذه الموجودات بعضا
من صفاتها وخصائصها. أنزله الله تعالى بلغة محكمة تجعله قابلا للفهم و القبول على مر
الأزمان، ومهما اختلفت مستويات الاستيعاب العقلي للناس، ومهما تطورت معارفهم و عقولهم.
وهدف الوحي تثبيت العقيدة الصحيحة، وإحكام الشريعة الحق، رحمة للعالمين من أن يأخذ بهم
الهوى والجهل إلى المهاوي والمهالك. فهو إذن نفحة و هداية من الله تعالى يسترشد بها الإنسان
طريقة في هذه الحياة ليستعد بها، ويحقق غايتها الأسمى، وهي الوصول إلى معرفة الله تعالى.
وإلى جانب المحكم من آيات الله المنزلة في كتابه العزيز، أنزل آيات متشابهة. لحكمة قررّها،
ولكي يميز الخبيث من الطيب، فقال تعالى:
( 7 (آل عمران: من الآية 55
16
هُوَ اَّلذِي أَْنزَلَ عَلَيْكَ اْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ اْلكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَاِبهَاتٌ فَأَمَّا اَّلذِينَ فِي قُلُوِبهِمْ زَيْغٌ 
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ اْلفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي اْلعِلْمِ يَقُوُلونَ آمَنَّا بهِ
8 كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَِّبنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلا أُوُلو الأْلبَابِ
فهذه الآية الكريمة فصلت منهجا للتعامل مع القرآن وآياته على العالم والمفكر أن يتدبرها
ليعلم كيف يتعامل مع آي القرآن، وكيف يقف أمام المتشابه منها والمحكم. والقرآن كتاب الله لا
يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الآية العظمى، قال تعالى:
9َ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ اَّلذِينَ أُوُتوا اْلعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بآياِتنَا إلا الظَّاِلمُون 
والقرآن ليس كتابا علميا متخصصا، وليس فيه نظريات علمية، ولا هو معجم أو قاموس لعلوم
معينة. ولم يكن الرسول المصطفى الذي بّلغه للناس عالما مختصًا أو فيلسوفًا أو مُصلحًا اجتماعيًا.
بل لم يكن يخط الخط أو يقرأ من قبل أبدًا. لنتأمل هذه الآيات، قال تعالى:
وَمَا كُنْتَ تتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تخُطُّهُ بيَمِينِكَ إِذاً لارَْتابَ اْلمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ 
اَّلذِينَ أُوُتوا اْلعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بآياِتنَا إلا الظَّاِلمُونَ* وَقَاُلوا لوْلا أُْنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَِّبهِ قُلْ إَِّنمَا الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ
وَإَِّنمَا أَنا نذِيرٌ مُبِينٌ* أَوََلمْ يَكْفِهِمْ أََّنا أَْنزَْلنَا عَلَيْكَ اْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَِلكَ لرَحْمَةً وَذِكْرَى لقَوْمٍ
10 يُؤْمِنُونَ
لقد وردت مفردة علم في القرآن ( 80 ) مرة. ووردت مع مشتقاتها ( 765 ) مرة. وأشهد الله
تعالى على وحدانيته وقسطه أولي العلم قارنًا إياهم بنفسه جل شأنه وبملائكته، فقال تعالى:
11 َ شهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إَِلهَ إلا هُوَ وَالْمَلائِ َ ك ُ ة وَأُوُلو الْعِلْمِ َقائِماً بِالْقِسْطِ لا إَِلهَ إلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 
كما أشهدهم على أن القرآن هو الحق، فقال:
12 وَيَرَى الَّذِينَ أُوُتوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إَِليْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إَِلى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ 
( 8(آل عمران: 7
( 9(العنكبوت: 49
( 10 (العنكبوت: 48  51
( 11 (آل عمران: 1
17
وجعل الله العلماء خير من يخشاه حق خشيته، فقال:
13 إِنَّمَا يَ ْ خ َ شى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ اْلعَُلمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ 
وقد رفع سبحانه شأن العلماء، فقال:
14 يَرْفَعِ اللَّهُ اَّلذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَّلذِينَ أُوُتوا اْلعِلْمَ دَرَجَاتٍ 
كذلك نقول بثقة إنه لا توجد أية مشكلة بين القرآن والعلم، كما هو عليه الحال مع التوراة و
الإنجيل المرويّة بألسن مختلفة. ولذلك لم يحصل أي خلاف أو صراع بين القائمين على أمور
الدين، والعاملين في مناهج العلم والتفكر العلمي على ما مر من تاريخ الإسلام. أما ما يُثار أحيانا
من تناقضات بين العلم و القرآن فمردها إلى الجهل، وعدم الفهم.
والعلم علمان: الأول: استنباطي، عقلي صرف، وهو ما يتوصل إليه الإنسان بالملاحظة
والتجربة والتفكر العقلي، ليتوصل إلى معرفة الأسباب والمسببات. وهذا هو علم ظني قائم على
الاستدلال والاستنتاج والاستقراء، قابل للتغير والتبدل، كما سبق وبيّنا في الفقرات السابقة. لكنه
الوسيلة العامة التي يعتمدها الإنسان العام لكشف موجودات العالم وعلله، ومعرفة خواصها،
وتسخيرها لصلاحه و منفعته. وإذا ما اتخذ هذا العلم الاتجاه الصحيح والمنهج الصحيح، فإنه
سيكون طريقا إلى معرفة الله. إذ إنه بالخلاصة بحث وتدقيق و تفكر في مخلوقات الله. ومخلوقات
الله هي آياته الدالة على وجوده، وعلى وحدانيته، وعلى كافة صفاته المجازية الأخرى التي حوتها
أسمائه الحسنى.
الثاني: هو العلم الإلهامي الذي يأتي وحيًا. وهذا هو العلم اليقيني الذي لا سبيل للخطأ إليه.
ولا يعتريه التبدل والتغير. ولا يخضع لأصول الاستنباط العقلي، فلا سببية، ولا تعاقب أسباب،
ولا استدلال ولا برهنة، بل هو الخبر الإلهامي يأتي هكذا دون تدبير ولا تفكير. ولا تتدخل فيه
: إرادة الإنسان لأنه من علم الله، قال تعالى على لسان العبد الصالح عندما حاور موسى
15 وَكَيْفَ تصْبِرُ عَلَى مَا لمْ تحِطْ بهِ خُبْراً 
( 12 (سبأ: 6
( 13 (فاطر: من الآية 28
( 14 (المجادلة: من الآية 11
18
ثم قال له:
16 وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَِلكَ تأْوِيلُ مَا لمْ تسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً 
والخبر الإلهامي يأتي وحيًا من الله لعباده. يقول الحق تعالى:
وَمَا كَانَ لبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بإِذِْنهِ مَا يَشَاءُ إَِّنهُ عَلِيٌّ 
17 حَكِيمٌ
منهجنا في البيان العلمي للقرآن وشروط العمل به
لذلك فنحن نعمل بعلومنا الاستنباطية في كافة المجالات الممكنة و المباحة، ونسترشد بهدي
الكتاب والسنة دليلا إلى فهم الأشياء، وإقرار الأحكام، و نجتهد رأينا ضمن إطار هذا الهدي بعد
أن نعمل الفكر والتأمل في جوانب المسألة. ويأتي ضمن آفاق الاسترشاد بالهدي القرآني التأمل في
آياته الكونية والفلكية التي جاءت نقاطًا دالة على الطريق الصحيح. ولكي نكون على بينة منها فلا
بد من بيانها للناس سعيًا إلى دعوتهم إلى انتهاج المنهج الصحيح عقيدة وشرعا. ولكي يكون علمنا
هذا منهجيًا قائما على أصول صحيحة، فإننا ينبغي أو ً لا أن نؤسس للمنهج المعتمد في التفسير
العلمي، ثم نضع شروطًا للمفسرين، أو الراغبين في العمل بهذا الاتجاه، لتؤهلهم إلى المستوى
الذي يجعلهم قادرين على الإسهام الصحيح، بما يجعل أعمالهم مثمرة، ويجنبهم الوقوع في الزلل
الذي تكون عواقبه خطيرة في مثل هذه الأعمال.
ومنهج التفسير المعتمد عندنا هو:
1. النظر في النص القرآني لغ ً ة والاستدلال بمعاني الكلمات العربية التي نزل بها.
2. التأمل في السياق الذي نزلت فيه الآية، وفي الآيات ذات العلاقة بها.
3. مراجعة أسباب النزول إن ورد فيها أثر ثابت صحيح بإجماع أهل الحديث.
4. مراجعة التفاسير المتوفرة للآية أو الآيات موضوع البحث.
( 15 (الكهف: 68
( 16 (الكهف: من الآية 82
( 17 (الشورى: 51
19
5. عرض الآيات على ما هو في العلم، فإن كان العلم قد توصل إلى كشف واضح وصريح
يصدّق ما جاء في آي القرآن؛ نظرنا فيه ثانية لُنحقق في مراتبه، فان كان حقيقة أرصادية
أو تجريبية قبلناه. أما إذا كان توصلا نظريًا نظرنا فيه ثالث ً ة، فإن وجدناه في أصول نظرية
علمية مقبولة ومحققة تجريبيا قبلناه، وإن كان استنباطا نظريا قاب ً لا للتأويل أو التحويل
ضمن نفس النظرية قلنا بترشيده بهدي القرآن، فإن كان غير قابل للترشيد أو أن أصله
ضعيف رددناه، وقلنا: الله بمراده أعلم.
6. أما إذا ما وجدنا أن في العلم ما يتعارض مع نص القرآن صراحة، قمنا بتحليل ما يقرره
العلم، فإن وجدناه حقيقة أرصادية أو تجريبية مباشرة تحرّينا ظروف الرصد أو التجربة،
فإن كانت سالمة صراحة قمنا بالنظر في القرآن لنجد ما يمكن أن يفسر المضمون ويزيل
فإن لم نجد . الأشكال، فالقرآن حمّال وجوه كما قال الأمام المرتضى علي بن أبي طالب
ما يزيل الإشكال، أرجأنا المسألة، وقلنا: الله بمراده أعلم، واعتبرنا المسألة من الأمور
الموقوف بيانها على الزمن.
هذا هو منهجنا في البيان العلمي للقرآن. ونحن لا نقول بتوفيق العلم مع القرآن على
الطريقة التي أرادها ابن رشد (رحمهُ الله) وصرح بها في كتابة (فصل المقال ما بين الشريعة
والحكمة من الاتصال) إذ يقول في فصل المقال: "فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف عنده
قياس يقيني، ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل
التأويل على قانون التأويل العربي” 18 . ذلك لأن ابن رشد اعتبر المعارف البرهانية معارف يقينية لا
تخطئ، كما هو واضح من هذا النص. على حين أننا نعلم الآن أن المعارف البرهانية نفسها
عُرضة للخطأ. لذلك كان لابد لنا من تطوير منهج ابن رشد إلى حالة أفضل و أكثر دقة نتحرى
فيها الحق، وإن كان ذلك سيؤدي إلى تعقيد النظر، وبذل مزيد من الجهد والتحقيق، فإن الحقيقة
هنا جديرة به.
أما شروط ومؤهلات المفسر العلمي، فإننا نرى أنها تشمل على ما يلي:
1. معرفة متقنة باللغة العربية، وفهم دقيق لمعانيها ودلالاتها.
2. معرفة شاملة بالقرآن. ويستحسن أن يكون حافظا.
3. اطلاع على التفاسير المتوفرة.
18 أنظر: إبن رشد، (كتاب فصل المقال ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال). ولاحظ أن ابن رشد يقصد
بالعارف الفيلسوف الذي يحصل علومه عن طريق البرهان.
20
4. معرفة تخصصية دقيقة بالمسائل العلمية التي يتحراها المفسر العلمي، والأخذ بالمعلومات
من مصادرها الأصيلة.
فنحن نرى أن هذه الشروط ملزمة لكل من يقوم على تفسير آي القرآن وتدارسها من
الناحية العلمية، وإلا فقد يكون عُرضة للزلل، ويخرج بتفسير يؤدي إلى إلحاق الضرر بالعقيدة أو
بالرؤية الإسلامية.
ولا يظنن أحد من الناس أن التفسير العلمي لجميع آيات القرآن ميسّر. فهذا القرآن العظيم لا
يتم بيانه تماما إلا في نهاية الزمان وقيام الساعة. لذلك لا ينبغي أن نطلب تفسير جميع الآيات
العلمية، بل ينبغي دومًا أن نتوقع وجود عدد من الآيات مما لا نستطيع تفسيره في أي عصر من
العصور. وهذه صفة ملازمة للتنزيل الإلهي، وهو المنوه عنه صراحة بقول الرسول الكريم عليه
السلام، (لا تنتهي غرائبه ولا تفنى على مر الزمان عجائبه). فكلمات القرآن طبقات بعضها فوق
بعض، وكل زمان يُجّلي طبقة منها، لتكون معجزته قائمة إلى يوم الدين.
أهمية البيان العلمي للقرآن
كثيرًا ما يُثار سؤال عن جدوى العمل في البيان العلمي للقرآن وفائدة توضيح ملامح
الاعجاز العلمي للقران. وفي هذا السياق تظهر الأسئلة التالية:
1. لما كان القرآن كلام الله وهو من علم الله المطلق فكيف لنا أن نركن إلى العلوم العقلية
الضنية في إسناد العلم المطلق، خاصة وأننا نعلم أن العلوم العقلية هي في تطور وتغير.
2. وإذا كانت العلوم العقلية الضّنية هي في تطور مستمر فهل ن ّ غير تفاسيرنا العلمية للآيات
القرآنية بحسب ما يكتشفه العلم؟
3. لماذا نجد أن العاملين في التفسير أو البيان العلمي للقرآن يطُلعون علينا بتفاسيرهم العلمية
للآيات عادًة في أعقاب الاكتشافات العلمية مدعين أن القرآن قال بتلك الحقائق العلمية
المكتشفة قبل أربعة عشر أو خمسة عشر قرنًا، في الوقت الذي لا نجد من المسلمين من
يستبق الأمر ويكتشف الحقيقة من وحي ما جاء بنصوص القرآن.
4. ما فائدة العمل بالإعجاز العلمي للقرآن بالنسبة لعامة الناس وخاصة المسلمين منهم؟
21
وللإجابة على هذه الأسئلة نقول: أن كون القرآن مُعجز وأن له وجوهًا إعجازية فهذا أمر متفق
عليه بين المسلمين وقد اجتهد كثير من السلف في بيان وجوه هذا الإعجاز، لغويُا بشكل خاص
كما في تفسير الزمخشري وفي كتاب أبي الطيب الباقلاني المسمى (إعجاز القرآن) مث ً لا، وعلميًا
بقدر محدود فيما إجتهد فيه الفخر الرازي من بيان الملامح العلمية التي احتواها تفسيره
المعروف.
نعم إن نص القرآن هو من علم الله المطلق فيما نجد أن العلوم العقلية هي ظنية تتغير
وتتبدل، لذلك فإن من الضروري أن يتحرى الباحث في البيان العلمي للقرآن إعتماد المنهج
الصحيح الذي أشرنا إليه ومنه ضرورة معالجة المسائل العلمية التي أصبحت بمرتبة المعارف
اليقينية كحقيقة كروية الأرض وحقيقة دورانها حول نفسها وحول الشمس وحقيقة خفة الغلاف
الجوي في طبقاته العليا مما يجعل الأنفاس تنقبض وحقيقة أن النجوم هي شموس مستعرة وغير
ذلك. فهاهنا كثير من المعارف العلمية التي ارتقت إلى رتبة المعرفة اليقينية. أما ما يعرض
أحيانا من اللجوء إلى نظريات غير مكتملة أو تخمينات علمية غير ناجزة فهذا ما ينبغي تحاشيه
والتنبيه عليه. لهذا السبب إشترطنا في أصولنا التي أثبتناها آنفًا ضرورة تحقق التمكن
والإختصاص لدى الباحث في البيان العلمي للقرآن. وإذا ما تم ذلك فإننا لن نلجأ لتغيير تفاسيرنا
العلمية لآي القرآن.
أما لماذا تأتي التفاسير العلمية وإدعاء الاعجاز بعد حصول الاكتشاف في العلوم العقلية
فذلك لأن أكثر العاملين في حقل البيان العلمي للقرآن هم عالة على العلوم التي يعالجونها. فهذا
طبيب نفساني يُصدر العديد من الكتب في الاعجاز العلمي في الفلك والكونيات وعلوم الأرض
والجو والتشريح. وذلك طبيب باطني يفتي في نظربة الانفجار العظيم ويتحدَّث عن تكوين الجبال
ونشأت المحيطات. وحتى بعض المختصين في علوم محدودة ساقتهم الشهرة التلفزيونية
والصحفية إلى الخوض فيما ليس من اختصاصهم فوقعوا في أخطاء علمية شنيعة. وهذا كله مما
لا ينبغي فعله. ولو كان الرجل من أهل الإختصاص المكين والايمان الحصين لكشف أمورًا
يهدي إليها القرآن ولم يكتشفها العلم بعد. ولنا في هذا الذي نقوله دليل من خبرتنا العملية في
دراسة أوليات خلق الكون وفي علوم نظرية المجال الكمي فقد إهتدينا، ولله الحمد والمنة، إلى
أمور لم يكتشفها العلم الصرف بعد لكننا أخذنا بما تعلمناه من القرآن وهذا ما نسعى لتثبيته في
العلم من خلال أبحاثنا المتخصصة في نشأة الكون. وهذا المجهود هو على وجه الحقيقة ما يخدم
بالفعل أسلمة المعرفة. وللحقيقة نقول أن هذا النوع من العطاء أمر ليس بيسير بل هو نادر ولعل
22
شباب الأمة ومفكريها ينتبهون إلى هذه المسألة فيُعملو التفكير فيها والتوجه إليها، بد ً لا من تخدير
الكسالى بالتغني بإعجاز القرآن الكريم والغفلة عن عجزنا الحضاري القائم.
أما بيان الإعجاز العلمي في عصرنا هذا فهو أمر جديد، يتخذ أهميته من سمات العصر
نفسه بعد أن تقدمت العلوم بشكل مضطرد وتوسعت المعارف بشكل كبير حتى ظن كثير من
الناس أن ما يقدمه العلم الصرف هو اليقين والغاية. وكثيرًا ما يُضل الناس البسطاء ببريق
الكشوف العلمية وكثيرًا ما نجد بعضهم يقع في الشك والحيرة إزاء بعض آيات القرآن فلا يفهمها
وتتزايد حيرته حين يظن وجود تناقض بين ما جاء به القرآن وما كشفته العلوم العقلية.
وأذكر أنني التقيت يومًا رج ً لا كان قد بلغ منه العمر مبلغًا. وبعد أن علم مني أنني أُستاذ
في الفيزياء الكونية وأعمل في الجامعة، بادرني بأسئلة عديدة حول آي القرآن الكريم فسألني في
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تغْرُبُ فِي عَيْنٍ  : مسائل عديدة من القرآن منها معنى قوله تعالى
19 وآيات أُخرى كثيرة، طالبا مني الاجابة من  رَبُّ اْلمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ اْلمَغْرِبَيْن  وقوله تعالى  حَمِئَةٍ
مورد العلم الصرف دون احتجاج مني بآية أو حديث. كما سألني عن إمكان وجود عوالم أُخر لا
نراها ولا نحس بها، وكان يقصد عوالم الجن والشياطين والملائكة، كما سألني عن صدق الوحي
وحقيقته. وطلب مني أن أُجيبه عن أسئلته بالاستعانة بالعقل والمنطق وما يفضي إليه العلم
العقلي، وكان هذا شرطه الذي لا يحيد عنه. فقبلت ولكن كان لي شرطي أنا أيضا وذلك هو إن
استطعت إقناعه بالعقل في مسألة قال بما أقول فيها وصدّق، فقبل بذلك. وأذكر أننا كنا نقف
يومها على رصيف الشارع المحاذي لمبنى المحافظة بمدينة الموصل، وكان ذلك ظهيرة أحد أيام
شهر تموز عام 1991 . فقلت له أسئلتك كثرة وتحتاج إلى وقت طويل للإجابة عليها، لكنني
سأوجز لك الآن المقدمة، على أن نلتقي في وقت آخر. وصرت أتحدث إليه عن العلوم العقلية
وما توصلت إليه في كشف الكون ومعرفة اتساعه ونشأته وعمره، وعن المشارق والمغارب، ثم
تحدث له عن اكتشاف العوالم الذرية والصور الغريبة التي تكون عليها هيئات الذرات وتصرفها،
ثم تكلمت معه بشي من التبسيط عن الزمان والمكان حتى صرت إلى حال لا أذكر ما قلته له
فيها لكن خير ما يصفها قول أبي حامد الغزالي رحمه الله
فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرًا ولا تسأل عن السبب
( 19 (الرحمن: 17
23
فانتبهت فجأة إلى الرجل وهو يصيح (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله)،
وأكب عليّ يُعانقني. فقلت له: ما خطبك يا رجل؟ قال: أنا رجل بلغ من العمر 65 سنة لم يؤمن
بنبي ولا رسول ولا بقرآن ولا انجيل ولم يُصلّ لله يومًا ولم يصُم شيئًا من رمضان ولا غيره حتى
الآن، فأنا كافر ملحد هداني الله بك الساعة. ُقلت: ولكن لي حديث طويل بعد، فأنا لم أُعطك إلا
أول القطر. قال لا.. هذا يكفي. دُّلني كيف يكون الإسلام؟ وسألني: هل يغفر الله لي كفري
وجحودي في ما مضى من الأيام الخوالي وأنا في هذه السن المتقدمة؟ فأخبرته بما يجب من
الطهارة وأداء الصلاة والتكاليف الأساسية، وأرشدته إلى مسجد قريب من مسكنه، وحرضته على
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ لمَنْ  قراءة القرآن وكثرة الاستغفار. وذكرت له الآية
قُلْ يَا عِبَادِيَ اَّلذِينَ أَسْرَفُوا  ثم ذكرت له قوله تعالى ، يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ باللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِْثماً عَظِيماً
وقوله تعالى  عَلَى أَْنفُسِهِمْ لا تقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُُّنوبَ جَمِيعاً إَِّنهُ هُوَ اْلغَفُورُ الرَّحِيم
ثم ودعته، ومضيت في طريقي كأني أطير من  وَإِِّني لغَفَّارٌ لمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَاِلحاً ثمَّ اهْتَدَى 
الفرحة. فهذا رجل كان العلم العقلي قد سلبه نفسه فكفر بغير العلم. لكنه لمّا وجد أن العلم الذي
يؤمن به هو يحيله إلى الإيمان آمن. والله هو الذي هداه إلى سواء السبيل، وإنما جًعلت سببًا
. وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً  لهدايته برحمة من الله وفضل
في مناسبة قبل هذه التقيت عام 1977 بالفيزيائي المعروف ستيفن هوكنج، الذي يتربع اليوم
على عرش الفيزياء النظرية في جامعة كامبردج. وكان لقائي به أثناء أمسية أُقيمت لمناسبة انعقاد
الذي عقد في أروقة جامعة واترلو بكندا، GR المؤتمر العالمي الثامن لفيزياء النسبية والجاذبية 8
حيث شاركت في ذلك المؤتمر بورقة علمية كانت جُزءًا من رسالتي للدكتوراه. سألت البروفسور
هوكنج: هل ترى يا أستاذنا أن وراء هذه المعادلات الرياضية المعقدة التي نشتغل بها في علومنا
الكونية الصرف شيئًا لا تصفه المعادلات ولا تستطيع احتواءه؟ وفهم الرجل قصدي فقال: إن كان
من شيء فلا بد أن يكون منطقيًا. فقلت: ولكن هل لك أي قدر من الحدس أو الثقة بوجود شيء
مما هو قوة فوق طبيعية يمكن أن تؤمن بها؟ فأطرق الرجل برهة ثم قال بشفتين مرتجفتين
لضعفهما، أنا أبحث عن هذا. بعد هذا الحوار القصير تركت البروفسور ستيفن هوكنج ومضيت
لبعض شأني. بعد عشر سنوات من ذلك اللقاء أصدر هوكنج كتابه الشهير "موجز تاريخ الزمن".
24
وبعد عشرة سنوات أخرى أرسل ُ ت إليه رسالتي التي تجد نسخة منها في نهاية هذا الكتاب وفيها
أدعوه ضمنيًا إلى الإسلام وتجد جوابه عليها.
Exeter وفي بداية عام 2005 دعاني معهد الدراسات العربية والاسلامية بجامعة أكزتر
البريطانية لإلقاء محاضرة عن (الرؤية الإسلامية لفلسفة علوم الطبيعة)، وهذه المحاضرة هي
جزء من موضوع شامل أعمل فيه منذ زمن طويل يستهدف كشف جواهر الفكر العربي الاسلامي
من خلال بعث النتاج الفكري الأصيل للمتكلمين المسلمين في مسائل الفلسفة الطبيعية، وما كان قد
اصطلح على تسميته "دقيق الكلام". هذا النتاج الذي غفله الدارسون، وأهمله المشرِّعون وعفى عنه
المفكرون فيما مضى. وكانت المحاضرة ولله الحمد ناجحة جدًا تركت أثرا طيبًا في نفوس
المستمعين وكان أغلبهم من أساتذة الفلسفة، فجرت مناقشة طيبة أثرت المحتوى وأبرزت القصد.
وكان بين الحضور رجل بدين ذي لحية طويلة وشعر كث يناهز الستين من العمر. سألني هذا
الرجل سؤا ً لا عن أوجه العلاقة بين وحدة قوانين العالم و وحدة الإله في العقيدة الإسلامية؟ فأجبته
بأن وحدة قوانين العالم دالة على وحدة الخالق دون شك. ألا ترى أن الصانع يميز صنعته بصفات
مشتركة تدل عليه. وبد قرابة شهرين من محاضرتي أرسل الرجل نفسه الي خطابًا يعرفني بنفسه
ويذكرني بصفته وسؤاله. ثم قال: أنا كافر لكنني أرغب في مزيد من الحوار والمساءلة معك بشأن
وجود الله لكنني أود أن أقول لك مقدمًا بأن محاضرتك التي ألقيتها في إكزتر جعلتني أدرك أنني
إذا ما قررت اختيار دين أومن به فسيكون هو الاسلام، ولو كان ذلك على فراش موتي! سررت
برسالة هذا الرجل سرورًا عظيمًا لا مثيل له، وعزمت بعون الله على بيان الحق لهذا الرجل ولم
أزل به حتى آمن بالله ونبذ ما كان عليه من الكفر والالحاد. وما كان هذا الرجل ليؤمن لو لا أن
هداه الله سبحانه بآياته البينات التي جاءت كشوف العلوم العقلية لتؤيدها وتصدقها. وصدق الله
العلي العظيم إذ يقول في محكم كتابه:
 سَنريهم آياتِنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَنَ لهم أنه الحق 
نخلص من هذا إلى أن البيان العلمي للقرآن سلاح ماض يمكن أن يكون في يد الداعية
المسلم ينافح به عن الإسلام ومنطلقاته وينافح بالقرآن، وفي هذا يقول الله تعالى عن القرآن:
20ً فَلا تطِعِ اْلكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بهِ جِهَاداً كَبِيرا 
( 20 (الفرقان: 52
25
فالعلم لغة العصر اليوم وهو الوسيلة الأمضى إلى الحق. ولذلك فإن الدعوة الاسلامية اليوم ينبغي
أن تتوجه إلى الناس بالعلم والعقل وعلى الدعاة المسلمين أن يتحصنوا بالعلم إلى جانب الإيمان
ويتخذونه سلاحًا لمواجهة الجهالة والشعوذة والباطل. فالعلم الحق يؤيد الإيمان الحق ولا يناقضه.
لكن الحذر الحذر من التدليس والادعاء على العلم بما ليس منه فلا ينبغي للعاملين في الاعجاز
العلمي والدعاة الذين يبغون وجه الله وداية الخلق أن يفتروا أو يتحدثوا بما ليس ثابت أو مبين في
العلم بالطرق المثقة السليمة وعليهم أن يتحروا الدقة في القول والنقل والترجمة ولا يأخذوا الأمور
بسطحية أو يعتمدوا على تقارير صحفية يكتبها أناس بعيدون تمامًا عن الاختصاص. لأن ذلك
سيؤدي إلى ارتداد الناس عن الثقة بالعاملين في مجال البيان والاعجاز العلمي للقرآن الكريم فض ً لا
عن ما سيقوم به أعداد الدين والتدين من تهريج ودعاية مضادة متخذين من الادعات غير الدقيقة
دلي ً لا لهم لاثبلت دعاواهم الباطلة باتهام أهل الدعوة بالكذب والتلفيق. ومن المحزن أن بعض
الدعاة قد غره العمل والكتابة فأسهب كثيرًا في الكلام وأطال في البيان حتى فقد النجعة ولم يوفها
حقها فصار كثير من كلامه زبدًا يذهب جفاء. ونحن لا نريد لكلام في حيثيات البيان القرآني أن
يكون زبدا، فحاشا كلام الله أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. بل الزبد ما كان من كلام
المتعجلين ورجف المكثرين، والله الهادي إلى سواء السبيل.